تونس- صراع السلطات يُهدد استقلال القضاء ونزاهة الانتخابات؟

في الأسابيع الأخيرة، تصاعد الجدل في تونس حول استقلالية السلطة القضائية، وكفاءة تنفيذ أحكام المحاكم، وتطبيق القانون على الجميع، وسيادة المؤسسات، وضمان محاكمة عادلة. هذه النقاشات الحادة جاءت في ظل التنازع القائم بين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمحكمة الإدارية، بسبب تجاهل الهيئة لقرارات المحكمة.
لقد تصورت النخبة التونسية المثقفة أن الإصلاحات القانونية العميقة التي تبنتها الحكومات المتعاقبة بعد ثورة 2011، والتي تجسدت في دستور 2014، تمثل إنجازًا لا رجعة فيه. فبعد مناقشات طويلة ومستفيضة استمرت لسنوات، وضع المشرعون الأسس والمعايير الدولية للمحاكمة العادلة. إلا أن تعامل الهيئة العليا للانتخابات مع قرار المحكمة الإدارية قد أعاد الأمور إلى مربع البداية، وأثار مخاوف من أن البلاد تتراجع إلى الوراء بدلًا من التقدم.
قامت المحكمة الإدارية بقبول طعون ثلاثة مرشحين للانتخابات الرئاسية المقبلة، وأمرت بإعادتهم إلى السباق الرئاسي، ملغية قرارات الهيئة العليا للانتخابات التي استبعدتهم، واصفة إياها بأنها "غير قانونية" و"تستند إلى حجج واهية"، وهو ما ذكره المرشحون المتضررون وما أشارت إليه المحكمة ضمنيًا في قرارها.
وبينما كان الرأي العام الوطني والدولي، بالإضافة إلى الفاعلين السياسيين، يتوقعون عودة المرشحين الثلاثة إلى المنافسة الانتخابية كمنافسين "حقيقيين" للرئيس الحالي قيس سعيد في انتخابات أكتوبر القادم، وهو ما كان سيضفي حيوية وتشويقًا على الانتخابات، فاجأت الهيئة الجميع بقرارها المثير للدهشة بالإصرار على استبعادهم.
كان قرار المحكمة الإدارية بمثابة وميض أمل في إرساء انتخابات نزيهة تضمن تكافؤ الفرص والتنافس الشريف، في ظل تزايد المطالبات بالتغيير والإصلاح من قبل مختلف الأطياف السياسية، بمن فيهم أولئك الذين أيدوا في السابق إجراءات 25 يوليو 2021، ووصفها خصوم الرئيس بـ "الاستبدادية" و"الدكتاتورية".
لقد رسخ لدى الكثيرين قناعة راسخة بأن التغيير ليس ممكنًا فحسب، بل ضروري وحتمي.
بين هيئة الانتخابات والمحكمة الإدارية
أثار قرار الهيئة العليا للانتخابات موجة عارمة من الانتقادات الحادة من قبل القانونيين والسياسيين والأحزاب والمنظمات الحقوقية على المستويين المحلي والدولي. ووصف بأنه "قرار تعسفي وإقصائي ويصب في مصلحة الرئيس الحالي". بل ذهبت الاتهامات إلى حد القول بأن الهيئة أصبحت "أداة في يد السلطة التنفيذية"، مما أفقدها استقلاليتها ومصداقيتها وحيادها الذي عرفت به منذ تأسيسها في عام 2011، إبان أول انتخابات تعددية حقيقية شهدتها البلاد في أعقاب ثورة 14 يناير.
ترقب الوسط السياسي والشعبي تراجع الهيئة عن موقفها لضمان شفافية ونزاهة الانتخابات، إلا أنها تمسكت بموقفها. وخرج رئيسها، فاروق بوعسكر، ليؤكد مجددًا استبعاد المرشحين الثلاثة: عماد الدايمي، ومنذر الزنايدي، وعبد اللطيف المكي. واتهم المحكمة الإدارية بانتهاك الإجراءات القانونية، وهو ما نفته المحكمة بشكل قاطع، وقدمت وثائق تثبت صحة الإجراءات التي اتخذتها وفقًا للقانون والقواعد الإجرائية المنظمة لعملها.
وفي تطور لافت لهذا الصراع، لجأت بعض الأطراف إلى مقاضاة الهيئة العليا للانتخابات، متهمة إياها بـ "تجاوز السلطة" ورفض الامتثال لقرارات المحكمة الإدارية، وهي الجهة الوحيدة المخولة بالفصل في النزاعات الانتخابية، والتي تعتبر أحكامها نهائية وغير قابلة للطعن، وفقًا لآراء خبراء القانون والقضاة الإداريين، مثل القاضي أحمد صواب، الذي رفع دعوى قضائية ضد الهيئة بصفته مواطنًا وناخبًا.
كانت مهمة المحكمة الإدارية، التي تأسست عام 1972، تقتصر على النظر في دعاوى تجاوز السلطة، قبل أن يتم تعديل القوانين المنظمة لعملها في عام 2014، بهدف تعزيز استقلاليتها ومنحها سلطة أعلى في اتخاذ القرارات، خاصة في النزاعات الانتخابية.
إلا أن الهيئة العليا للانتخابات كان لها رأي آخر، حيث تجاهلت قرارات المحكمة الإدارية، واعتبرتها كيانًا شكليًا لا تأثير له، وأعلنت احتكارها للولاية على الانتخابات ومساراتها المختلفة، ابتداءً من تحديد موعدها وصولًا إلى إعلان النتائج النهائية.
إن تعامل الهيئة العليا للانتخابات مع قرارات المحكمة الإدارية يعيد البلاد إلى نقطة الصفر، مما أثار مخاوف جدية بشأن استقلال القضاء ونزاهة العملية الانتخابية برمتها
على الرغم من الخلاف المستمر بين المؤسستين، إلا أن النتيجة النهائية تظل ثابتة، وهي استبعاد المرشحين الثلاثة والإبقاء على القائمة الأولية التي تضم الرئيس قيس سعيد، وزهير المغزاوي (الأمين العام لحركة الشعب)، والعياشي الزمال (رئيس حركة "عازمون")، الذي يقبع حاليًا في السجن بتهمة "تزوير التزكيات الشعبية"، وفقًا لما ذكرته السلطات.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بادرت السلطة التنفيذية إلى نشر قرار الهيئة في الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية، في خطوة تهدف إلى قطع الطريق على أي أمل في التراجع عن هذا القرار، بحسب تصريحات الرئيس سعيد المتكررة.
بالإضافة إلى ذلك، قامت السلطة التنفيذية بتمكين الهيئة العليا للانتخابات من استلام شحنة الحبر الانتخابي و"الأكياس الآمنة" الخاصة بأوراق الاقتراع، في رسالة واضحة مفادها أن قضية المرشحين الثلاثة الذين أصرت الهيئة على استبعادهم قد حسمت بشكل نهائي، وأن قرار الهيئة يحظى بدعم السلطة الكامل.
المحكمة التي لا تنفذ أحكامها
في الواقع، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها رفض تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية. ففي وقت سابق، امتنعت وزارة العدل عن تنفيذ حكم المحكمة الإدارية بإلغاء قرار إعفاء القضاة (49 من أصل 57 قاضيًا)، والذي صدر بموجب مرسوم رئاسي في يونيو 2022.
لم تكترث وزارة العدل بوضع هؤلاء القضاة، حتى بعد دخولهم في إضراب عن الطعام استمر لعدة أيام، ولم تلتفت إلى قرار المحكمة الإدارية. بل الأكثر إثارة للقلق هو أن هؤلاء القضاة ما زالوا يواجهون ملاحقات قضائية من قبل السلطة، بتهمة "شن إضراب وتعطيل مرفق إداري عام بدون وجه حق".
حتى المنظمات الاجتماعية التي تدعي الدفاع عن القانون والعدالة، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، رفضت الانصياع لقرار المحكمة الإدارية الصادر لصالح "مرصد رقابة" لمكافحة الفساد، الذي يرأسه المرشح الرئاسي عماد الدايمي.
هذا هو التحدي الذي تواجهه المحكمة الإدارية منذ عقود. فاللجوء إليها سهل، ولكن الاحتكام إلى قراراتها وأحكامها في حل النزاعات ما زال ضعيفًا، إن لم يكن معدومًا. وهذا يثير تساؤلًا جوهريًا حول أسباب عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، على الرغم من الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها.
في دراسة علمية قانونية حديثة حول "تنفيذ أحكام وقرارات القضاء الإداري في تونس"، أشار القاضي الإداري عماد الغابري إلى "تفاقم ظاهرة عدم تنفيذ أحكام القضاء الإداري"، حتى "أصبح يُنعَت بالقضاء الذي لا تُنفذ أحكامه وقراراته"، وهي العبارة التي تتردد على ألسنة الكثيرين في تونس، وتعكس اللامبالاة التي تواجه بها قرارات المحكمة الإدارية، وهو ما يهدد مستقبل هذا القضاء.
"الولاية" على الانتخابات.. الصراع الخفي
لم يقتصر النقاش على مسألة عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، بل امتد ليشمل مسألة الولاية على المسار الانتخابي، حيث تتمسك المحكمة بحقها القانوني في القيام بهذا الدور. إلا أن الهيئة العليا للانتخابات كانت قد أعلنت "ولايتها" الكاملة على العملية الانتخابية منذ البداية.
فهي التي تحدد جدول الانتخابات، وتُقرر موعد الاقتراع، وتشرف على عملية التصويت، وتعلن النتائج النهائية. بل منحت نفسها أيضًا الحق في الإشراف على وسائل الإعلام والمؤسسات الإعلامية، وحتى على المحتوى الإعلامي المرشح للبث، وخاصة الانتقادات الموجهة إلى الهيئة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أعلنت الهيئة ولايتها على مشاركة المنظمات المتخصصة في مراقبة الانتخابات، مثل منظمتي "أنا يقظ" و "مراقبون"، واتهمتهما بالفساد المالي، استنادًا إلى "إشعارات من السلطات الرسمية" تفيد بحصولهما على تمويل أجنبي. وهذا يعني أن الهيئة استولت حتى على دور القضاء، المخول وحده بتأكيد أو نفي تهمة الفساد المالي.
هذا التوجه نحو الهيمنة على العملية الانتخابية واستبعاد المحكمة الإدارية من نطاق اختصاصها المنصوص عليه قانونًا فيما يتعلق بالانتخابات، دفع العديد من الخبراء وأساتذة القانون إلى التعبير عن رفضهم لهذا الأمر.
فقد أوضح الأستاذ كمال بن مسعود، المتخصص في القضاء الإداري، أن "المحكمة الإدارية تتمتع بالولاية الكاملة على الانتخابات، خاصة في النزاعات الانتخابية والأحكام القضائية الباتة الصادرة عنها"، وهو ما أكده عدد من المتخصصين في القانون الدستوري في بيانات نشرت في وسائل الإعلام التونسية والأجنبية.
النزوع نحو الهيمنة على القضاء
لا تقتصر المشكلة على الولاية على الانتخابات أو مكانة القضاء الإداري أو مجالات تنفيذ قرارات المحكمة. بل إن الأمر أعمق من ذلك، فهو يتعلق بمشكلة سياسية جوهرية تتعلق بالإرادة السياسية في تحقيق محاكمات عادلة، وجعل القضاء هو الفيصل في النزاعات، وتحقيق استقلال المؤسسة القضائية، وضمان الفصل بين السلطات، وحماية الحقوق والحريات.
هذا ما تعكسه المعارك الحقيقية اليوم، والتي يبدو أن ملف المحكمة الإدارية ليس سوى جزء منها.
إن الأمر يتعلق بنزوع السلطة التنفيذية للهيمنة على المؤسسة القضائية بشكل عام. فمنذ نشأة القضاء في تونس، وهو محكوم بصراع خفي ومعلن مع السلطة الحاكمة، التي سعت عبر التاريخ إلى الهيمنة على القضاء وسلب استقلاليته.
بدءًا من حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، حيث كان القضاء يسمى "قضاء الزعيم "، مرورًا بفترة حكم الرئيس زين العابدين بن علي، حيث كان يسمى "قضاء التكاري"، وصولًا إلى وضع القضاء الحالي.
في المقابل، تعتبر السلطة أن هذا هو مسعى لـ "تطهير القضاء "من التسييس والتحزب، والدفاع عن مصالح ضيقة. وهذا ما يرفضه القضاة ومن يساندونهم، إذ يعتقدون أن الجسم القضائي مستهدف دائمًا وأبدًا، وهو في صراع مستمر مع اللوبيات داخل السلطة وخارجها. لذلك، يتحرك بعض أعضاء هذا الجسم بين الفينة والأخرى، دفاعًا عن مناعة القضاء، ولمقاومة إرادة الهيمنة على المؤسسة القضائية.
جسم القضاء يتحرك
هذا بالضبط ما جسده القاضي الراحل مختار اليحياوي، قبل الثورة التونسية، من خلال رسالته الشهيرة التي بعث بها إلى الرئيس السابق بن علي، محذرًا من مغبة "توظيف القضاء" لمآرب السلطة الحاكمة، والدوس على أحد أجنحة العدل والمساواة والحكم الرشيد. هذه الرسالة تسببت في إعفائه من كرسي القضاء، لكنها ظلت عنوانًا لاستقلال القضاة، ومرجعًا للمدافعين عن العدالة.
وهذا ما حرصت جمعية القضاة التونسيين على التذكير به الآن، من خلال بيانها الأخير، والذي وصف بـ "الشجاع" و "العميق".
فقد أطلقت الجمعية ما يشبه "صيحة فزع أخيرة" إزاء ما آلت إليه الأمور في المؤسسة القضائية. اتهم البيان وزيرة العدل الحالية بـ "التغول على السلطة القضائية"، وممارسة "نهج تسلطي" عبر "ترهيب القضاة" من خلال نقلهم بشكل تعسفي إلى محاكم بعيدة بمئات الكيلومترات عن مقرات سكناهم، دون مراعاة لظروفهم الاجتماعية، وذلك في محاولة "لتطويع القضاة وفرض إملاءات السلطة عليهم"، خاصة فيما يتعلق بالبت في القضايا السياسية.
انتقد البيان ما وصفه بـ "أجواء الخوف والرعب وانعدام الأمان" التي تهيمن على القضاء برمته. وهذا هو التوصيف الأخطر الذي تتحدث عنه الأحزاب بالتلميح، وذكرته جمعية القضاة بالتصريح، وبصوت عالٍ.
السلطة التنفيذية متهمة بالهيمنة على القضاء، مع رفض تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية وإقصاء القضاة الذين يقفون في وجه هذه التجاوزات
يبقى القضاء الملاذ الأخير للباحثين عن الأمان الاجتماعي والسياسي.
تقول إحدى الحكايات التونسية، ذات الدلالات الرمزية اللافتة، أن أعرابيًا قدم من الريف الجنوبي التونسي باتجاه العاصمة لزيارة المحكمة الابتدائية بتونس، على مقربة من قصر الحكومة بالقصبة. وقف الرجل أمام المحكمة، وقرأ اللوحة الموجودة على واجهة البناية، حيث كتب "قصر العدالة". فعلّق قائلًا: "القصر موجود، لكن العدالة غائبة".
مع ذلك، يبقى السؤال: هل ثمة أمل في قضاء جديد ومستقل بعد الانتخابات المقبلة، بما يعيد الثقة في عدل القضاة واستقلال المؤسسة القضائية؟
المشكل سياسي بالأساس
هذا السؤال يرتبط بالمعترك السياسي، وبما يمكن أن تؤول إليه العلاقة بين السلطة التنفيذية التي يتزعمها الرئيس قيس سعيد، وأطياف المعارضة بشتى مكوناتها. فبالرغم من "برود "الاستحقاق الانتخابي، ترافقه هواجس المقاطعة. والرغبة في هزيمة الرئيس الحالي عبر إسناد مرشح منافس حقيقي له.
وقد زاد في تعزيز هذه الرغبة ظهور نتائج استطلاع للرأي حديث، قامت به منظمة "مراقبة الانتخابات ودعم الديمقراطية "بالتعاون مع السفارة البريطانية في تونس.
الاستطلاع أظهر أنه للمرة الأولى منذ صعوده إلى رئاسة الجمهورية، يفقد الرئيس سعيد المركز الأول في نوايا التصويت، إذ جاء المرشح منذر الزنايدي، الذي أسقطت الهيئة العليا للانتخابات ترشحه، في المركز الأول، بينما جاء سعيد في المركز الثاني. هذا يفسر التحشيد الهائل الذي تقوم به المعارضة منذ عدة أيام، للتحضير لمسيرة وسط العاصمة، شبيهة بتلك التي حصلت قبل سنوات، والتي انتهت بإسقاط النظام، وتدشين مرحلة جديدة في تاريخ البلاد.
يبقى التساؤل: هل يشهد المشهد التونسي هذا الحراك بما ينهي حالة الجمود التي تعيشها البلاد منذ فترة طويلة؟ وهل تحقق المعارضة ما تصبو إليه من استئناف "الانتقال الديمقراطي" رغم التحديات التي تواجهها؟
أنصار الرئيس يرون ذلك بعيدًا، وخصومه يرونه قريبًا.